الجمعة، 22 أكتوبر 2010

المحاكاة والتعليم بين تنظير الرؤية واحترافية التطبيق

في العصر الحديث - لا سيما النصف الثاني من القرن العشرين وأوائل الواحد والعشرين – استهوى العديد من الأكاديميين فكرة توليد العلوم بخاصة البينية، والذي جرب عملية البحث العلمي الجاد يدرك أن له لذة شديدة، تغمر صاحبها، وكأنها تشبع فيه شهوات علمية عميقة الغَوْر.

فمنذ ابتدأ ريتشارد باندلر وجون جريندر نشر أبحاثهما في السلوك البشري وعملية التفكير، واستحداث العلم البينيّ البرمجة اللغوية العصبية، والكثير مما استقر في أذهان المتخصصين في مجالات العلوم المختلفة بدأ يتزحزح تمهيدا لأن يترك مكانه تماما لأفكار جديدة تأتي وتعيد تشكيل أجزاء رئيسية في طريقة تفكير ذلك المتخصص – ما يسمى بالاستراتيجية الفكرية.

وحتى تكون الرؤية أكثر بساطة فإن العلوم التي انطلق منها الباحثان جريندر وباندلر ليستخرجا علمهما كانت من عدة حقول منها الرياضايات واللغويات وعلم النفس وانضم للقافلة بعد ذلك التشريح.

وليس ذلك عجيبا وفقا لما اتسم به العصر الحديث من تداخل بين العلوم وإفادتها من بعضها البعض، وبيت القصيد أن البرمجة التي اندفعت غازية مجالات العلاج النفسي ثم إدارة الأعمال ثم التعليم وغيرها اعتمدت فكرة انطلاق محورية واحدة، هي المحاكاة.

والمقصود بالمحاكاة هو استكشاف الاستراتيجية العقلية للفرد المتميز في أداء عمل ما، وتدريب باقي الأفراد غير المتميزين على تلك الاستراتيجية، الأمر الذي من شأنه حصول باقي الأفراد على النتائج نفسها، أو ما يقاربها مما كان يحصل عليه الفرد المتميز.

وعَبْر مجموعة من الخطوات الإجرائية يستطيع ممارس البرمجة أن يستفيد من الاستراتيجية العقلية لمتميز ما، أو [خلطة استراتيجيات عقلية لمجموعة متميزين في مجال واحد] لكي يتحرك في ضوء الواقع لتدريب باقي الأفراد، مستهدفا تغيير التوجه العقلي لهم أولا والذي يقوم على عملية التفكير – أو معالجتهم لتجاربهم التي عاشوها – إلى أن يصل معهم لتغيير نظرتهم للحياة ووجهات نظرهم في الأشياء، مارا في تدريباته لهم بتغيير سلوكهم ومن ثَم عاداتهم السهلة التغيير ثم الأصعب فالأصعب تغييرا، حتى يغدو المتدرب أيا كان سنه قادرا على التحكم في مشاعره وأحاسيسه وتوجيه أفكاره، وأخيرا قادرا على توقع نتائجه والعمل على تحقيقها.

وبعد الثورة التي أحدثتها بعض تفاصيل البرمجة في العلاج النفسي للخوف المرضي بأنواعه والعادات الراسخة كالتدخين وغيره صار لزاما على التربويين الاهتمام بالأمر..

وبالرغم من أن بريطانيا كانت من أكثر الأقطار تأخرا في دخول هذا العلم فيها إلا أنها تعد من أهم الذين أسسوا اتحادا للمعلمين الممارسين لهذا العلم في مجال التعليم، وسريعا ما تطورت برامج تأهيل المعلم عندهم ليصير لديهم

“licensed practitioner in Neuro linguistic programming for education and learning”

ودخل هذا العلم أكثر من 36 جامعة تقريبا، وعلى ذلك تتسع الفجوة بيننا وبين أحدث إنتاج عالمي زيادة على ما كان.

ومن أجل رؤية أوضح نستعرض بعض الأدوات التي مثلت انتقالا كبيرا في المدرسة التي تعتمد البرمجة نظاما تربويا لها . .

ماذا يمكن أن يكون تصرف المعلم والمرشد الطلابي عندما يتعامل مع حالة طالب متميز للغاية ويحصل على تقدير واحترام كل معلمينه بالإضافة لأعلى الدرجات في مواد الدراسة؟

كان المتوقع في الوضع العادي أن يقدم له التشجيع والعون المادي والمعنوي إلا أن البرمجيين يتحركون في التجاه مختلف.

يرى البرمجيون أن هذا الولد هو أفضل عينة يمكن دراستها لاستخراج استراتيجيته التي ربما – وفي الأغلب – لا يعرفها الولد نظريا ولكن يطبقها ليحقق من خلالها نجاحاته الاجتماعية والعلمية هذه لا سيما في حالة أن يتفوق في مواد دراسية تمثل عقبة كبيرة لدى باقي الطلاب، أو يتعامل مع مدرسين ذوي شخصية صعبة ويكتسب احترامهم رغم اصطدام كثير من الطلاب بهم أو العكس، ذا ودراسة هذا الولد العقلية تتم بشكل منهجي يتابع لفترة معينة سلوكه وتعبيرات وجهه ووضع أكتافة وكل حركات جسده ونشاطاته الحياتية إلى آخر تفاصيل تجربته المختلفة ما يسميها البرمجيون الشكليات الثانوية[1] submodalities، مع رصد تام لقيمه واعتقاداته الراسخة core believes وغير ذلك، ثم الاستفادة من مجموع الصفات المشتركة بينه وبين باقي المتميزين في تحقيق نجاح معين في دراسة مادة ما أو تجاوز عقبة اجتماعية ما ووضع برنامج تدربيبي مصغر لباقي الطلاب على ذلك لا سيما الضعفاء منهم..

ولا يفوتنا أن المطبقين دون البرمجة في حقول التعليم كثيرا ما يعتمدون على خبراتهم في حل تلك المشكلات مع الضعفاء من الطلاب وذوي المشكلات الاجتماعية وكذا إلا أنه رغم الأهمية الكبيرة لخبراتهم المكتسبة من الواقع يبقى عنصرُ أن لكل جيل ظروف مختلفة تحدد المعايير المؤدية لنجاح طلابه المختلفة عن معايير الجيل السابق عليه أو حتى السنة السابقة عليه، ويزداد إحساسنا بذلك مع تقدم العالم وسرعة الاتصال والجديد من المدخلات المكونة لفكر وعقلية [ برمجات ] الطلاب، فليس من المناسب علاج مرض اليوم بدواء 20 سنة مضت أو حتى العام الماضي، ووفقا لإقرار كل التربويين الذين قابلتهم أو تحدثت معهم فإنه يكاد يكون الطلاب في إقبالهم وسلوكياتهم وقيمهم مختلفين تماما عنهم قبل جيل أو جيلين، ولو وضعنا في الاعتبار بُعد الوقت الذي يمارس فيه المعلم التعليم عن الوقت الذي تلقى فيه النظريات والتدريبات التربوية " التأهيل العلمي والعملي " في الجامعة، بالإضافة لمدى قدم المواد العلمية التي قُدمت في الجامعة أو حداثتها وفقا لمدى تطور الجامعة وترتيبها بين جامعات العالم تقدُّما، وكذا وضع البحث العلمي فيها، ندرك حجم الفجوة.

ومثال آخر داخل الفصل – لا سيما في المرحلة المتوسطة (الإعدادية) – حيث يبدأ التخصص نسبيا في كيف العلوم المقدم للطالب، نجد أن تقسيمة النظام التمثيليلي البشري وفقا للباحثيْن الأمريكيين في كتابهما Structure of magic الذي تتبعوا فيه عددا من أهم المتميزين في قضايا العلاج النفسي وعلاج الأسرة وكذا، وصلوا لنتيجة تقول بتقسيم شخصيات البشر إلأى ثلاثة أنواع وفقا لإدراكها للتجارب التي تمر بها واتخاذها لقراراتها فيها:

1- صاحب نظام تمثيلي بصري

2- صاحب نظام تمثيلي سمعي

3- صاحب نظام تمثيلي حسي

وبعد مجموعة من التجارب اكتشفوا أهم الأطر العامة الحاكمة لإدراك الفرد واتخاذه لقراراته حسب نوع نظامه التمثيلي، فسيولوجيا[2] وسيكولوجيا ومن ثم برمجيا، ولو أدركنا كذا أن الأنظمة الثلاثة داخل كل إنسان إلا أن أحدهم يكون القائد the leading representational system وهو الذي يعالج به الإنسان غالب تجاربه، وإذا أدركنا أيضا أن الإنسان أيا كان عمره تختلف سرعة كلامه مثلا ودرجة علو صوته بين الحدة والهدوء وفقا لنظامه التمثيلي فنجد:

1- صاحب النظام التمثيلي الحسي يتراوح بين 80-120 كلمة في الدقيقة

2- صاحب النظام التمثيلي السمعي يتراوح بين 120- 180 كلمة في الدقيقة

3-صاحب النظام التمثيلي البصري يتراوح بين 180 – 220 كلمة في الدقيقة

4- صاحب النظام التمثيلي البصري الحاد يتراوح بين 220 – 280 كلمة في الدقيقة.

ندرك ساعتها كيفية تشخيص الإدراة المدرسية كوكيل المدرسة مثلا لمشكلة عدد من الطلاب في استقبال المعلومة من معلم غير متدرب على البرمجة، وعلى تقديم المعلومة بكل الأنظمة في أكثر من صورة، أو المعلم الذي لا يستطيع أصلا تحديد نظام طالبه ليعرف ما الوسيلة المناسبة ( مرئية ومتخيلة – مسموعة ومحكية – محسوسة وملموسة) لاستكمال معلومته وجذب انتباهه لا سيما في لحظات أول الحصة وإحداث الهرج والضجيج في الفصل وما يصنفه التربويون تحت عنوان إدارة الصف.

ولا يفوتنا أن ننوه للأثر الذي أحدثته البرمجة في علاج الكثير من مشاكل طلاب القسم الثانوي كالتدخين والإقلاع عنه والتخلص في فترة قصيرة للغاية من العادة السرية أو الحد منها وكذلك التخلص من الخوف من مواجهة الجمهور مهما كان سن الطالب وسن جمهوره، الذي يعد الخوف الأول على مستوى العالم بينما يأتي الموت في المرتبة السابعة من درجات الخوف المرضي، ولا يخفى مدى أهمية تربية الطلاب على الجرأة والشجاعة.

وكذلك قمين بالذكر اهتمام البرمجيون بعملية التواصل، الأمر الذي يتداخل كثيرا مع المربي والمعلم في تعويد طلابه على الحوار العلمي والتفاوض الفعال والدقة في التعبير عن المدركات والتفريق بين الحسي والمعنوي في النقل العلمي، كأن يخبر عن زميله بأن عينيه حمراء اليوم لا أنه لم ينم ليلة الأمس جيدا حسب تأويل الطالب وكذا أن فلانا يربع يديه لا أنه انطوائي حسب فهم الطالب، ففرق بين الواقع بشكل حسي دقيق وبين الفهمنا له حسب أفكارنا وأحاسيسنا.

وممانندب البحث فيه والاطلاع عليه أهم المؤلفات التي تناولت الأبعاد التطبيقية للبرمجة على مجال التعليم، وقدتبين بعد البحث والاستقصاء أنها قليلة جد قليلة في المكتبة العربية، وأن المجال ما يزال بكرا بعد، فحبذا من يضيف لمكتبتنا في هذا المجال وحبذا من إفادة معلمينا منه على طريق المزيد من الاحترافية في الأداء والإتقان في العمل.

حاتم الأنصاري 21/8 / 2010 م

11/9/ 1431 هـ

بعض ما يفيد من المراجع:

1- د/ حسن شحاته، استراتيجيات التعليم والتعلم، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة

2- http://teachers.pilgrims.co.uk/teachers/info/tnp.asp

3- http://www.meta4education.co.uk/

4- http://www.teachingexpertise.com/articles/improving-teacher-effectiveness-with-nlp-3211

5- http://mibomedia.com/nlp-for-teacher.htm



[1] نورد المصطلحات وما بمنزلتها بالإنجليزية لأننا ارتضينا هذه الترجمة العربية ورضي غيرنا غيرها فصار الذي عليه الاتفاق بين الأدبيات التي تناولت هذا العلم في العربية والإنجليزية هو المصطلح الإنجليزي.

[2] كلمة فسيولوجيا تشير للجزء المتعلق بالحجاب الحاجز وأثره على التنفس وكمية الأكسجين في الجسم ومن ثم سرعة الكلام والانفعال والتفاعل مع الآخر.