الأربعاء، 10 يونيو 2009

فتوى أبى مالك

دخلتُ عليهما بعد صلاة العشاء فآثرتُ السمع:

قال: يا أبا مالك وهل يَظلم المحِبّ؟

قال: لا والله لا أراه يَظلم، بل تَظلم المُحِبة.

قال: وى!! وكيف الخلاص إذن، إن أنا رددت عليها بعض ظلمها رفرفت فى العالمين بأنى أجور وأتجنى، ومن طرف عينها الآخر تُسِرّ لى بالشكوى المتدللة تارة، وبالحنق الغاضب تارة أخرى، تقول بصوتها الهادئ المميز: يا من لا تملك حسا ولا رأفة، من أى شىء خلقت؟ ولا أملك لها شيئا؛ فأرانى أحاول محوها فأثبتها، وأقول هو كلام مع جثة، فلا أجد الحياة تدب فىّ إلا عندما ترنو إلىّ هذه الجثة، فأى جثة هذه؟!

فرد عليه الشيخ: إذن فما هى بجثة...

فقاطعه مقطبا: أفهم أنها الاسم الأخير الذى شُطِب..

فيقاطعه الشيخ متصابيا بقهقهة تنم عن مكنون حُكم تبدى له فى المسألة، ثم يقول بعد أن يحك لحيته متراخيا: أتعرف يا صاحبى، إنه ظُلم مَن فى النار ولا يحترق، يستجيز الصلاة والرقص فى اللحظة عينها!..

فيكمل له القول: نعم عينها، هنا يكمن الإلغاز، وهنا يكمن الحل، إلا أن القدر يتأبى علىّ.. فليس التسلى عن بثينة أجمل.

فرد عليه: لا أراك أحسنتَ قراءة جميلٍ أبدا.

فاهتز عِرق درعمى فى صاحبنا: وماذا تحسن أنت فى علم الشعر وعمله؟

فاستوعب أبو مالك الموقف متجاهلا كعادته الأثيرة: أبدا كل ما فى الأمر أنك فهمت جميلا حين أخلص لبثينة دون غيرها، وفهمته كذا حين رد عليها سبابها انتصارا لكبريائه فى بغيض، وأزيد يا أيها الدعمى أنك فهمته حين طلب تقبيلها اختبارا لها فأبت وتوعدت، لكن لم تفهم أن صاحبته معه ليست صاحبتك معك؛ فهى تطلبه بل تبكى فراقه بالفعل والشعر، لا بالشعر فقط أو بالأحرى الكلام المنطوق والمكتوب فقط، ثمت هو يعيش الحياة لغاية غير التى تعيش لها أنت تمام الاختلاف؛ فهو يجاهد بحبه فحسب، وهذا حسبه يبنى به مجده التليد الطارف، أما نحن فليس هذا شأننا، نحن نخلط الحب بالثورة، كما تفضل تسميتها، فنستعين بهذا على ذاك، على مذهب بدر فى الفسطاط والمغرب موازنا ذلك بالرحلة ثم بشبه الجزيرة الأيبيرية .. الأندلس.. لا أدرى لماذا كلمة الأندلس حلوة هكذا، المهم أنك نسيت شطر جميل الأول، وذكرت الثانى فى قوله:
محا حبها حب الأولى كن قبلها وحلت مكانا لم يكن حُلَّ من قبل
ولولا إذ تبينتها فى النار ولا تحترق قلت ما يكون لنا أن نجاهد بهذا سبحانك هذه لفلان صاحبنا، لكنت سعدت بما سعدت به من التوفيق فيما وُفقتَ ووَفقتَ بعد ذلك.

فقال: فإلى أين المسير يا أبا مالك؟

قال: الحب فى حالتك كلمة تعنى أن تستقبل دون ما تستدبر، وربما حدث كلُّ ما حدث لكى تفهم أن الحب الذى رأيته فى عينيها هنا يمكن أن تراه هناك فى عينى إحداهن، وأنت لا زلت بعدُ فى الوطن العربى وإن كنت على يساره، وما المانع أن تتعدد خبراتك فى بلاد العرب المسلمين من أقصى شرقها لأقصى غربها، فها هو صاحبك رضى من عشقٍ أن يكون سابقها وعالِمها، ومن آخر أن يكون قائدها، ومن آخر أن يكون معلمها الأستاذ، ومن آخر أن يكون أستاذها المعلم، ومن آخر أن يكون كتابها المرقوم المفيد، المهم أنه وإن بلغ الذروة عندهن أو لم يبلغها بعينها فقد كاد يفعل، ودخل بذلك فى دائرة النفر الأكثر أهمية فيمن لقينهم فى الحياة، ثم مضى هو فى الحياة يستشرف ويتخير، وإن كان بأرض ليس فيها نساء الآن، لكن من يدرى فلعله يحصّل تحت القبر تبرا، المهم أنه يروم حيث رام، ألم يقل لك أن صاحبكما تامر عبد العزيز أنشده قصيدة أنشأها بالإنجليزية تحكى أنه يعرف بنتا من القمر وأخرى من الزهرة وهكذا، صحيح أنه قد اعترف بعد ذلك أنه لم يعرف من عالم النساء إلا نساء أسرته الصغيرة، لكن لا أرى صاحب الجامعة الأمريكية يرضى بأقل من المئة؛ فلا تستكثر الخمسة والستة فكل هذا يمهد للقرار بعدهنّ، وقد ذكرتَ لى أنك قرأتَ وسمعتَ منهما ما يفيد ذلك، وما يعينُ الزمن على طىّ الصفحتين، واستقبال عيون بلد لولا العيون لماتت عطشا يا أبا أروى.

قلتُ: ليته قال صدقتَ ولو فى سِرّه.