الجمعة، 25 مارس 2011

غاية الفهم؟ من زاوية سيميائية

إثرَ ليلةٍ هادئة، شاركتُ في حوار تعارفي مع عالِمةٍ متخصصة في مجال مشترك بيننا، وبعد كُلَيْماتٍ، سألتني عن كتابٍ عمود في عملنا، ثم قالت أفهمته جيدا؟ فوقعَتِ الكلمة من نفسي أولَ ما وقعت على غير ما أُحِب، ولكني تداركت بدبلوماسية لطيفة وآثرت الاستماع لما لديها فهذا أظرف مقامًا، وظَلْتُ أروح داخلي وأؤوب، وأفكر في معاني سؤالها الأول، إشاراتِهِ ودلالاتِه، محاملِه ومنازِله، وأتوخى استطلاع رأيي في صمتٍ كلما لاح شيء من ذلك، حتى وجدتني أقول: لا يلقي مثل هذا السؤال إلا من له قصد فكري معين يرمي له، كالذي يسألك عن رأيك في مسألة لتقول رأيا، فيقول: بالتأكيد ودليل ذلك كذا وكذا، ولاح لي من ذلك إرهاب فهميّ، به يَتِمُّ قَصْرُ ما يحتمل التوسُّع، وإدخال الشرح والحاشية في المتن سواء بسواء، ثم بعد فترة تريُّث، وجدت السؤال عن الفهم محاولة للفهم، إذ يتوقع أنك بايَنْتَه فيه فحصل الثراء، ونُدبتِ الإفادة منه، ولكن آثر نفسه وفق اعتبارات المقام المرعية بالطرح أولا، وما البأس إذن، ولكن أيكون طرح الفهم فهما آخر؟ يتيح للفاهم أن يصوغ ويحلل أو ينظّر ويركب حتى يجد نفسه جاوز النص المفهوم إلى مفهوم النص، وهو ولا شك شيء أكثر انتماءً له هو، فتحدث اللذة، ويمتلك المأرب، وتجيش النفس عملا وتعبيرا وحركة، إذ النص ما هو إن لم يفهم؟! وبعبارة أخرى حياة النص فهمه لا هو.

ثم سألتُني: ما غاية أن يفهم المرء كتابا في أصول علم ما، الكتاب نفسه فهم كاتبه لنظرية معينة؟ هذا من ناحية، ومن أخرى: أكُلُّ التفريع مفيد؟ أكُلُّ فهم لفهم لفهم يفيد؟ وهل مبدأ الثراء الأفكاريّ قائم على القبول دائما؟

وهنا آثر الحكيم الداخلي أن يوقف الأجزاء الديناميكية المتحكمة في عقله الواعي المحلل لتضغي لاستاتيكية العقل الباطن العاطفي، وبدأ يحاول الإجابة فقال وبالله التوفيق: اعلم يا رعاك الله أن غاية فهم المرء لنصٍ ما ليست أبدا إدراك المتلقي لمقصود المرسل، وإنما هي إدراك المتلقي لما يراه المتلقي مقصودًا من المرسل، وبكلمات أخرى: هو إدراك المتلقي لما يطمئن المتلقي له أنه مقصود المرسل. ويختفي الجدل على صحة ما ذكرنا بقولنا: أنْ لو ادعى متلقٍ أنَّ كذا هو مراد المرسل وأن غيره مخالف لمراد المرسل، لأباح لمخالفه أن يدعي دعواه عينَها، وهنا يحتدم الإقصاء في إحدى صوره، وتنغلق الأفهام إذ المتكلم لا يَسْطِيعُ يَسْمَع في اللحظة ذاتها، وحال المتلقين هذه هي التكلُّم ولا شيء غير التكلُّم. فتح الله علينا..

وعلى ذا الأصل نبني فرعا: أنَّ شرط صحة التفريع ألا يكون للتفريع، إذ طلب الجِدَّة ضامنٌ لكل بذْلٍ عقليٍّ لكي يكون نافعا؛ لأن النسخ عمل الآلة فلا يحسنه بشري إحسانها له، بل ويفسده، والأصل أن يتولى المرء ما يحسنه؛ حيث هو قيمته، وكل نقلٍ زانه انحرافٌ كان بشريا نافعا، فكيف به إذا طَلَب الناقل أو المبدع – وهو ناقل ولا شك أيضا – أقصى الانحراف وهي الجِدَّة قدرَ الطاقة؟ يكون ذا أوج المعرفة الكائنة في لحظة زمنية معينة، وتتدفق بسرعة إلى ما دونها بقدر شدة انحرافها عما سبقها، فإن قُيل: في بعض المنحرفين شطط وخبل وجنون لا نفع فيه، قلنا: بقدر ما يستطيعون أن يطبقوا في الأرض ذات السنن الكونية والقوانين الطَّبَعِيَّة شططهم يكونوا قد أصابوا عين الاستقامة المعنوية، فأصل الحنيف المنحرف لا المستقيم. أحسن الله إلينا ..

والوجه الآخر لفرعنا: أن التفريع لو كان للتفريع لكان هباء هدرا، لأنه لا يعدو حالين: إما نقلٌ لا انحراف فيه يُثَمَّن، أو خيال لا قدرة لحامله/ لحامليه على مواجهة الناس به وتطبيقه، إذ هو أضغاث الفكر لا يُرجى منه الإثمار – لا إقصاءً منا له – بل تمحيصا وترشيحا لكل الطروح على قوانين الحياة التي ترفع وتخفض، وعلى ذلك لا نعترض على طرح بأنه تفريع للتفريع، وإنما نحكم بذا بعد أن يحكم التفريع ذاته على ذاته أمام امتحان القدرة الإرادة والتحمل، والسوق مفتوحة للجميع. قدس الله سرنا ورضي عنا وأرضانا ..

شكرتُ لله نفسي والسيدة، وانصرفت بسعادة الوئام الداخلي.

لا يعرف الشوق إلا من يكابدُهُ ولا الصبابةَ إلا من يعانيها

إدلاج ليل الجمعة ،

الرياض، حي الروضة،

20 ربيع الآخر 1432هـ

25 مارس 2011 م

حاتم الأنصاريّ

هناك تعليقان (2):

مطالب العلا يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
مطالب العلا يقول...

عجبتني جدا فقرة المتلقي والمرسل ... وإن كنت كما تعرف عنى .. أود دائما في تعليقاتي المعرفة الدقيقة لما يريده المرسل .. وإن كنت أيضا في كثير من الأحيان ترمي تعليقاتي التحليلية إلى أكثر ما يريده المرسل .. لكني أعترف معك أن على المتلقي عدم الجزم بالمعرفة الدقيقة لمراد المرسل.. أما الجزء الآخر في المقالة الخاص بالتفريع حقا فقد استفدت منه كثيرا لان شخصيتى تميل إلى معرفة بواطن الامور واحيانا التفريع يكون ليس له فائدة.. أخيرا أسلوبك رائع وحقا هو يحتاج للقراءة أكثر من مرة حتى يصل المراد لكني أفتخر وأحمد الله أننى أفهمه من المرة الأولى :) .. في انتظار كتاباتك المقبلة ..